المستخلص: |
لئن كان دور الشركات العائلية في تونس هاما في تنمية الاقتصاد الوطني خلال العقود الأخيرة، فإن واقع هذه الشركات وآفاق تطورها المستقبلي يطرح تساؤلات عديدة تشترك فيها مع الشركات العائلية على امتداد الوطن العربي وتتعلق خاصة: • بتنامي دورها الاقتصادي وتطور تنظيمها الهيكلي بعد الجيل الأول من المؤسسين، • وبطرائق تسييرها وإدارتها وما طرا عليها من تغييرات، • وباستراتيجيات تنميتها على ضوء ما توفره المؤسسات والأسواق المالية من إمكانيات للتمويل، • وبما تفرضه مقتضيات العولمة من تحديات وضغوطات مباشرة وغير مباشرة، بما في ذلك قواعد العمل وأساليب التعامل المعتمدة عالميا، هذه المقتضيات التي يتعاظم تأثيرها يوما بعد يوم بقدر ما يتقلص دور الدول في حماية الاقتصادات الوطنية من انعكاسات حرية المنافسة على الساحة العالمية. وسيتناول هذا العرض الموجز الخطوط الكبرى لواقع الشركات العائلية التونسية التي تمثل نسبة هامة تقدر بحوالي90% من المؤسسات الاقتصادية في تونس وذلك من زاوية تعاملها مع السوق المالية الوطنية. واهم مميزات هذا الواقع هو ميل اغلب الشركات العائلية إلى الحفاظ على ملكية العائلة لرأس المال والعمل على ضمان تواصل صبغتها العائلية. إلا إن هذا الاتجاه العام لدى أصحاب الشركات العائلية لم يمنع إقدام بعضهم على الانفتاح على السوق المالية الوطنية بغرض الاستفادة من الحوافز الجبائية التي توفرها الأرضية القانونية التونسية حاليا لتشجيع الشركات على الانخراط في معاملات السوق المالية ولتأهيلها حتى تكون مواكبة لحركية العولمة. اًما بخصوص الموقف المعارض لفتح رأس مال الشركات العائلية التونسية على العموم، فإن جل أصحاب هذه الشركات لا يزالون إلى اليوم متمسكين بالحفاظ على ملكية رأس المال في نطاق العائلة وذلك لعدة أسباب لعل أهمها الخشية من فقدان التحكم في الشركات التي أسسوها وسهروا على تنميتها. وبالإضافة إلى ذلك فإن من أهم عوامل تعلق أصحاب الشركات العائلية بالحفاظ على طابعها الخاص المنغلق والمنحصر في المحيط العائلي إنما هو حرص المؤسسين على بقاء هذه المؤسسات ودوامها وعلى إعداد الأجيال الصاعدة من أبناء العائلة لخلافتهم ولاستلام أمانة القيادة منهم ومواصلة المسيرة في أحسن الظروف. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى إن تطور واقع الشركات العائلية في أوروبا وأمريكا الشمالية اثبت إن نسبة الشركات التي تواصلت بعد الجيل الثاني لا تتجاوز3% . ذلك انه قد تطرأ على حياة الأسر خلافات أو مشاكل تؤثر على اللحمة وعلى الوفاق بين إفرادها وتتعكس سلبيا على الانسجام الضروري بين مكونات سلطة القرار في إدارة المؤسسة وهو ما يمثل عائقا أمام حسن تسييرها بل ويشكل خطرا حتى على حياتها. ولعل الاعتبار بهذا الواقع هو الذي جعل بعض أصحاب الشركات العائلية يبادرون بالعمل على الفصل بين مهمة إدارة الشركة وبين ملكية رأس المال حتى تبقي المؤسسة بمنأى عن كل ما قد يطرا من تقلبات على العلاقات بين إفراد الأسرة الواحدة. ومن جهة أخرى فإن إدراج هذا الشركات ببورصة القيم المنقولة يعفي بالنسبة إلى أصحابها فتح رأس المال للعموم وتعريض مؤسساتهم لإمكانية سيطرة الغير عليها. كما أنهم يعتقدون إن انفتاح شركاتهم يعرضهم إلى التفريط في بعض المعلومات التي يحرصون على الاستئثار بها أو إخفائها وخاصة ما يتعلق منها ببعض الممتلكات وبالوضع المالي. وفي كل الحالات فإن القانون التونسي يفرض على مالكي رأس المال، في حالة إدراج الشركة بالبورصة، إن يتنازلوا عن حقهم التفاضلي في ملكية الأسهم. إلا إن الانفتاح على السوق المالية القائم على مبدي حرية تداول أسهم الشركات المدرجة بها وحربة بيع تلك الأسهم للغير بدون أي قيد أو شرط سوى ما يقتضيه القانون من ضوابط وقواعد تنظم المعاملات في البورصة، إن هذا الانفتاح يمكن الشركات المعنية من الحصول على تمويلات ذات تكلفة منخفضة مقارنة بتكلفة التمويلات البنكية، وهو ما يضمن للشركات المعنية مزيدا من السيولة المالية الكفيلة بتحقيق طموحاتها في التوسع وفي تنويع مجالات نشاطها الاقتصادي. كما إن الانفتاح يسمح بتشريك إجراء الشركات العائلية في إن يصبحوا في نفس الوقت إجراء وشركاء مساهمين في رأس المال مما يحفزهم على مضاعفة العمل والجهد لتحقيق نتائج أفضل يستفيدون منها. ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى إن مقتضيات المجلة التونسية الجديدة للشركات التجارية والصادرة سنة 2000 تفرض على جميع المؤسسات الاقتصادية التي يكون رأس معها 20.000 دينار فأكثر الالتزام بشفافية التصرف وخاصة من خلال ضرورة تعيين مراقب للحسابات وإيداع القوائم المالية لدى إدارة الجباية صحبة التصريح بالمداخيل السنوية. وإضافة إلى هذه الإجراءات، فإن الشركات المدرجة بسوق القيم المنقولة مطالبة بنشر موازناتها وحساب النتائج وقائمة التدفقات المالية ورأي مراقب الحسابات. ويتم هذا النشر بالصحف اليومية وبنشرية البورصة.
ولا شك إن من أهم ما يترتب عن نشر المعلومات المتعلقة بالشركات المدرجة بالبورصة هو التأثير المباشر على سلوك المدخرين الذين لهم دور أساسي بفضل ما يمارسونه يوميا من رقابة على أوضاع المؤسسات بواسطة الاطلاع على تلك المعلومات وهي الرقابة التي تؤثر على قرارهم في المعاملات التي يباشرونها سواء بالإقبال على اقتناء أسهم بعض الشركات أو بالعزوف عنها أو بالإسراع بالتخلص منها. وهكذا يتضح من كل ما سبق إن المشرع التونسي حرص كل الحرص على إرساء الأرضية القانونية والآليات التي تساعد أصحاب المؤسسات على الاستعداد للانخراط في العولمة من خلال تهيئة أسباب تنشيط السوق المالية في مناخ تسوده الشفافية والمصداقية والثقة . ذلك انه بفضل الضمانات القانونية التي تحمي مصالح المساهمين في رأس المال، لا فرق في ذلك بين كبارهم وصغارهم، يقبل المدخرون على المشاركة في تنشيط إعمال السوق المالية التي تحرص من خلال آلياتها المختلفة على توفير الشفافية والمصداقية للمعاملات المالية. وكلما تدعمت المصداقية تأكدت الثقة في النظام الاقتصادي وهو ما يشجع المدخرين على تعبئة موارد مالية إضافية وتوظيفها في معاملات السوق المالية سواء عبر الاكتتاب في الزيادات المقررة لرأس مال بعض الشركات أو بواسطة تداول الأسهم. فإذا كانت حركية السوق المالية عنصرا أساسيا في تعبئة الموارد المالية وفي تنمية الادخار الوطني، وإذا كانت الشركات العائلية هي الفاعل الرئيسي من حيث حجم تدخلها ودورها في تحريك الدورة الاقتصادية الوطنية، فإن تظافر جهود الشركات العائلية ومؤسسات السوق المالية وآلياتها يصبح عاملاً جوهريا في النهوض بالاقتصاد ودعم عناصر القدرة التنافسية إمام تحديات العولمة. وإذا كان السبب الأصلي في تشجيع الشركات العائلية في تونس وفي منطقة المغرب العربي عموما على الانفتاح على السوق المالية هو حاجتها الماسة للسيولة والبحث عن مصادر تمويلية ذات تكلفة منخفضة، فإن الوضع يختلف تماما بالنسبة إلى الشركات العائلية الخليجية التي تتوفر لديها موارد مالية هامة تبحث عن الفرص الملائمة للاستثمار، وخاصة إذا توفرت لها عوامل المناخ الأمن والضمانات القانونية والمردودية الاقتصادية، بعيدا عن كل الأخطار التي تهدد الاستثمارات العربية حاليا في بعض البلدان سواء تعلق الأمر بتأثير تبعات التضخم المالي أو تقلبات سوق الصرف أو احتمالات تجميد الأموال أو حتى مصادرتها مهما كانت التعلات أو الأسباب المعلنة والخفية. والسؤال الحقيقي المطروح اليوم بإلجاح على المؤسسات الاقتصادية العربية عموما والشركات العائلية بالدرجة الأولي هو معرفة هل حان وقت التكامل اقتصادي العربي أم لا ؟ هذا التكامل الذي يسمح لجميع المؤسسات المعنية بتفعيل الفضاء الاقتصادي العربي عبر بناء شبكات من المصالح المشتركة تقوم بين الشركات العائلية العربية على أساس الثقة المتبادلة وتقاسم الأرباح والمخاطر وفقا لصيغ اقتصادية وضمانات قانونية ملائمة من شانهاان تؤسس لشراكة مستدامة يضمنها مناخ استثماري امن وواعد وان تعزز طاقة الاقتصاد العربي على التعامل بندية مع الشركات العالمية العملاقة والكتل الاقتصادية الكبرى التي تحاول فرض سيطرتها على الاقتصادي العالمي. واعتقادي إن الشركات العائلية العربية قادرة على كسب هذا الرهان التاريخي وعلى الاضطلاع بمهمتها السامية في رفع التحدي الحضاري المتمثل في المبادرة باقتحام عصر المعرفة بجسارة وجدارة واقتدار.
|