ارسل ملاحظاتك

ارسل ملاحظاتك لنا







ضريبة السعادة : الإشهار و توثين الجسد

المصدر: عالم الفكر
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
المؤلف الرئيسي: رابح، الصادق (مؤلف)
المجلد/العدد: مج 37, ع 4
محكمة: نعم
الدولة: الكويت
التاريخ الميلادي: 2009
الشهر: يونيو
الصفحات: 169 - 207
ISSN: 1021-6863
رقم MD: 138937
نوع المحتوى: بحوث ومقالات
قواعد المعلومات: EcoLink, HumanIndex
مواضيع:
رابط المحتوى:
صورة الغلاف QR قانون

عدد مرات التحميل

45

حفظ في:
المستخلص: بعد ارتيادنا كثيرا من الآفاق المعرفية والقراءات التي قاربت موضوع الجسد وعلاقته بالآخر وتمظهراته في الميديا ، نخلص إلى أن الفرد المعاصر، ومن ورائه المجتمع ، يفتقر إلى كثير من المعالم الحياتية ، والقيم المرجعية التي يمكن أن تؤطر طاقاته وترفع من سقف تطلعاته إلى ما هو أبعد من جسده . فهو يتمركز حول نرجسيته الفردية موظفا جسده كجسر محوري في التواصل مع الآخرين . ولأنه يستثمر كل متاح ، حتى لو كان غير عقلاني ، لبناء شخصية قوية ، فإن هذا الفرد يجد نفسه أكثر هشاشة من قبل . وكعادة الفرد في علاقته بالصورة ، فإنه كلما طالت علاقته بها وأمعن فيها أكثر، تعرف على عيوبها . وفي ظل سقوط العالم الجماعية وعزلة الفرد، ينكفئ هذا الأخير على نفسه ، ويصبح جسده سقفا وجوديا يفرح بفرحه ، وينهشه الفزع ويشعر بالضياع إذا أحس أنه " يخونه ". إن الشعور بحمل "وزر الجسد " يدفع بصاحبه إلى العزلة والانطواء والإقصاء الذاتي . وإذا قام وجود الفرد على صورته في مرآة الآخر، خصوصا الآخر المنمذج إشهاريا، وكيفية انعكاسها على رضاه عن جسده وذاته عموما، فإن ذلك يوحي بأننا أمام شخص يعاني من "مخيال مريض "، ويعيش حالة هشاشة سيكولوجية حارقة ، وغير قادر على إدراك الواقع كما هو . وهذا العجز عن عدم إقامة فاصل بين "الواقعي " "والمتخيل " هو الذي يدفع الفرد إلى الإقامة في عالم يفتقر فيه إلى أفق وجودي واضح ، وتسكنه هواجس تأثيم وتوضيع الذات واستنفارها للتماهي مع نماذج غير عقلانية . من منا لم يشعر، في يوم من الأيام ، بالانزعاج من وجود بعض "الانفلات" في بطنه ، أو صلع بدأ يزحف إلى رأسه ، أو تجاعيد "متربصة " به لتكشف سنه البيولوجية التي طالما حاول إخفاءها؟ من منا لم يشعر يوما بالضيق وهو يقف أمام المرآة وهي تكشف عن ملامح لا تتوافق مع الصورة التي طالما بناها عن نفسه ؟ من دون أ ن ننسى تلك الخلافات الصغيرة والكبيرة التي كثيرا ما تنطلق شرارتها بين الزوجين لأن الزوجة ، وربما الزوج ، صادر حق الآخر، و"استولى " على غرفة الزينة(Walk in closet/Salle de bain) لممارسة طقوسها/طقوسه التزيينية. ليس من السهل ، إذن، على الفرد أن يتحمله إدارة ذاته ، خصوصا إذا كانت صورتها غير متناغمة مع تلك التي يحملها عنها في خياله . فهذا الفرد المتردد والمدفوع دفعا إلى التكيف مع المتغيرات الحياتية يجد صعوبة في القيام على ذاته بسبب هشاشة أوضاعه وتوحده الذي يدفعه إلى أن يكون مكتفيا بذاته. لقد رأينا في الفقرات السابقة كيف قامت الميديا، خصوصا في نسختها الإشهارية ، بابتداع مصفوفة مفاهيمية (السعادة ، الصحة ، الجمال ، التفوق ، المكانة ، الحيوية...إلخ) سريتها ، عبر عمل دؤوب ومتواصل، إلى فضاء الأفراد فغدت الكوة التي ينظرون من خلالها إلى ذواتهم وإلى الآخرين . وبما أن هذه الميديا تؤسس - عبر آليات الإغراء الإشهاري ، حيث يغيب الفعل الثقافي لمصلحة الفعل الغريزي - " لنماذج " جسدية متعالية ، فإن النتيجة " الطبيعية " هي هذا الميل المتزايد لدى كثير من الأفراد إلى عدم الرضا عن الذات . وقد أثرت قراءة الميديا للجسد كشيء، بدلا من النظر إليه كصيرورة تثمن جانبه الأداتي الوظيفي ، في كيفية تقييم الأفراد لأجسادهم . وبما أن هناك هوة بين الجسد كما هو، والجسد "النموذجي" الذي يسوقه الإشهار، فإن كثيرا من الأفراد أصبحوا يستثمرون في أجسادهم باعتبارها واجهتهم الوجودية وهويتهم في علاقتهم مع العالم الخارجي. إن ما يمكن معاينته أن الإشهار تحديدا ، كنسق بصري أيقوني، لم يعد يستثمر في التسويق والبيع بقدر توظيفه في تسريب ونشر معايير سلوكية تمثل قيما هوياتية للماركات التجارية ومعايير بصرية للتعرف عليها وتمييزها عن منافسيها. فالأفراد وخصوصا فئة الشباب ، يقبلون على الإشهار ليس فقط لاستبطان صيغ سلوكية ذات طبيعة علائقية تمكنهم من التماهي معها اعتمادا على التقليد، ولكن أيضا بحثا عن معايير الاعتراف العاطفي . وهنا نلاحظ ما يسميه بعض الباحثين " الوظيفية التأسيسية للجسد العاطفي والمتمثلة في بناء الفرد ككائن اجتماعي ، وذلك عبر الابتلاء الجسدي " (96) . مع ذلك فإن الفرد يملك كثيرا من "الرأسمال " الذي يمكن ، إن هو استبطنه إيجابيا وأحسن استثماره ، أن يعيد إلى نفسه شيئا من الطمأنينة ، وأن يرتفع بسقفه الوجودي إلى إشكاليات تأسس شرعيته كإنسان ، وذلك عمل يحتاج إلى إعادة طرح سؤال الكينونة ، ليس فقط من منطلق فلسفي ، ولكن بدافع ترشيد الغايات وطرح سبل جديدة في التساوق معها . ولن يكون ذلك فعلا فرديا محضا ، بل إنه فعل اجتماعي جماعي يحتاج إلى تجاوز عقلية الإخلاد إلى "الزبد" بالتعبير القرآني ، إذ لا يمكن لفرد يحيا ضمن سياقات توثن الجسد (97) وتجعله مرجعية دالة على صاحبها، أن يفارق شروطه الاجتماعية الموضوعية ويستحدث رؤية تجديدية لذاته. وليس معنى ذلك أننا من المتشيعين لبعض المقاربات البنيوية الجبرية التي تصادر حق الفرد وتنكر عليه تعهده لنفسه وتحجر عليه وتلحقه "بالقطيع "، كحتمية لا فكاك منها، بل إن ما نسعى إلى إدراكه واستدراكه أن المجتمع يظل فاعلا في الفرد ، وأن الذات تجد "نفسها مشدودة إلى إطار يتجاوزها ويملي عليها جانبا معينا من تمثلاتها وسلوكها وثقافتها ووضعها في الحياة وموقعها في الوجود" (98) وهذا " الارتهان " للجماعة لا ينزع عن الفرد، بأي حال من الأحوال ، مسؤوليته في الذهاب أبعد من سقف "هويته " الجسدية.

ISSN: 1021-6863

عناصر مشابهة