المستخلص: |
كانت البؤر السياسية الرئيسية العالمية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في حالة من اللاستقرار السياسي والشيخوخة. كما أن اللاتوافق السياسي والأيديولوجي السائد والتنافس الاقتصادي أدخلا العالم طوراً من التوتر قاد إلى حربين عالميتين، كان من تداعياتهما احتجاب نُظُم سياسية لحضارات كبرى، في طليعتها النظام السياسي للحضارة العربية الإسلامية الذي اختفى من الخارطة السياسية بشكل كامل تاركاً وراءه رقعة هائلة من الجغرافية السياسية المكشوفة. وقد توغلت أمريكا في جغرافية هذا النظام السياسي الفاقد للمناعة؛ لإعادة تكوينه وإقامة ما تسميه ((الشرق الأوسط الكبير))، والعراق هو محطتها الأولى فيه. والمشهد العراقي يحدث على مفترق طرق رئيسي لعمالقة الأمم والكتل السياسية التي ترقب عثرة العملاق الأمريكي في حلبة العراق. لقد أيقظ الاحتلال والمقاومة معاً الإحساس بالهوية، وأزالا الحدود القُطْرِيَّة التي كانت نُدُباً ثقافية وسياسية شبه مزمنة في العقل العربي المعاصر لتصبح المقاومة هي الأخرى متعددة الجنسيات مثل القوات الغازية. إن أهل السنة بحاجة إلى سياق أيديولوجي تنتظم فيه مكونات قضيتهم وفصول تضحياتهم، وترتسم من خلاله الصورة الكاملة للحدث. إن المشوار الثقافي عند الفرد السني وطموحاته السياسية تنتهي عند الغلاف الخلفي لكتاب التربية الوطنية الذي تقرره مناهج الدولة في المدارس والمعاهد. وهذه العلاقة بين الشخصية السنية ومؤسسات الدولة صيد سهل لخصوم أهل السنة، المشكلة هي أن الدولة المعاصرة تغيرت وهذه الشخصية استمرت. إن سيكولوجية الحكم المزمنة لدى هذه الشخصية لازالت تتحكم بها في زمن الاستضعاف، فهي لم تألف العمل المعارض، ولا تملك خطاً ثانياً من مؤسسات الاكتفاء الذاتي مما يوازي مؤسسات الدولة، لذا نرى الاضطراب والحيرة يدبان في سلوكها لحظة غياب الدولة. وقد يطول الاحتلال وقد يقصر، ولكن الاحتراب الثقافي الداخلي يبقى بوابة المحتل متى ما شاء الدخول، وطوق النجاة إذا ما اضطر إلى الخروج يوماً. الذين يُذْبَحُونَ اليوم على مذبح المارينز أمام وفاق قسري إلى حين انجلاء هذه الغمة، وإلا فالفناء السياسي هو خيارهم الآخر، إلا من أراد منهم الغرق الاختياري في المستنقع الأمريكي.
|