المستخلص: |
منح لإنسان العاقل لإمكانات الطبيعية والبيئية، وبنية دماغية تتطور وفق آلية التحريض والاستجابة حتى استطاع أن يمضي في مسير الحضارة، كاشفا، مبدعا، متجاوزا نفسه في كثير من المجالات، حتى أدرد العدو، وفهم أن هناد سيدا للأعالي، يحمل قيم الخير والحق والجمال. ومن أجل وعي هذا المطلق، كان عليه أن يلامس مظاهر الطبيعة، خائف تارة، حذر تارة أخرى، منفعل بها حتى رمزها واستجار بها. تلك الرموز الطبيعية قدس ظواهرها في سعيه نحو سيد السماء وخالق كل شيء. كان لإنسان إذن كائن من خير، لم يبتكر وثنيته، بل سعى نحو لإله حاملا مظاهر خلقه، القمر، الشمس... إلخ. \ والوثن حسب البيئة الطبيعية، فهو انعكاس لذهنية اجتماعية تفاعلت مع البيئة الطبيعية، فكلما شحت البيئة الطبيعية كانت الوثنية حسية، بدائية، غريزية، والعكس صحيح. \ لا تبتعد الذهنية المشرقية في تصوراتها عن نشوء الكون عما أوحت إليه المعتقدات بعامة، ومن الماء نشأ الكون، فالسماء مفصولة عن الأرض بالفضاء/ الهواء، الذي بدوره تولدت منه الأجرام النيرة، ثم انبثقت إلى الوجود الحياة النباتية والحيوانية والبشرية. وثمة سيد الكون وخالقه، غير المدرك، والذي استعان بملائكته في العلاقة الواصلة بينه وبين البشر، تلك الملائكة التي تم التعبير عنها في الذهنية المشرقية بالرموز الطبيعية وغيرها: شمش (الشمس)، سن (القمر)، انليل (الهواء أو الفاصل بين السماء والأرض)،، وهكذا. وسيد الكون (الإله العالي) هو آنو في الألف الثالثة قبل الميلاد، وايل في الألف الثانية قبل الميلاد، وصولا إلى الله في الأديان السماوية. كلمة آنو هي التي تحدد مصير وقدر لإنسان ولا ينقضها أي إله آخر لأن الاّلهة الأخرى أدنى مرتبة. وهذا يؤكد سمو آنو وتفرده ووحدانيته. فهو المجرد، البعيد، العالي، السامي، مقابل آلهة تعنى بتنفيذ الكلمة لإلهية لآنو والتي لا تتبدل ولا تنقض. \ وقد تبدى السيد العالي في الوثائق: "هو الذي لم تلده امرأة، وإنما خلق نفسه بنفسه، هو الثمرة التي خلقت نفسها بنفسها، خالق كل شيء، واهب الحياة، راعي البلاد - أبو السنين (الخالد) – خالق الخلائق - الحكيم - الطيب - سيد الرحمة - الرحيم (ذو الفؤاد) - السيد الذي لا تبدل مشيئته - أنواره لا يحدها بصر- أسرار جوهره التي تبقى خافية على البشر - لا أحد يعرف برسائله - لا أحد يلم بقراراته - لا أحد يستطيع فهم دروبه ". \ بهذا قاربنا مجموعة الرموز الاعتقادية التي عبدت في المشرق العربي، والتي كان في استمراريتها حتى الألف الأول الميلادي دوره المهم، ولاسيما فكرة لإله العالي، المحجوب، الذي يسكن السماء، لا يرى ولا يرى، وبيده مقادير الأرض والسماء، هذه الفكرة التي سوف تتطور وتتبلور مع مر العصور حتى فجر الأديان السماوية المسيحية ولإسلامية والتي ستكون رافعتها الحضارية هي ثقافة الألف الأول قبل الميلاد، الكلدانية - الآرامية بالذات التي امتدت فاعليتها الحضارية حتى الجزيرة العربية انطلاقا من تيماء، العاصمة الثانية للملك الكلداني نبونيد بعد بابل.
|