المستخلص: |
على خلفية برامج مكافحة الفساد الفاشلة، تتناول هذه المقالة خطاب المنظمة الدولية غير الحكومية لمكافحة الفساد المعروفة بمنظمة الشفافية الدولية (Transparency International)، مع التركيز على استخدام المنظمة لمفاهيم النزاهة والأخلاق. ويتم استكشاف معنى هذه المفاهيم وأهميتها من خلال النظر في معايير السياسة العامة التي تنادي بها منظمة الشفافية الدولية، وخصوصا مفهوم الطبيعة البشرية الذي تضمنه خطاب المنظمة. وبناء على وثائق من منظمة الشفافية الدولية ومقابلات مع موظفيها، تخلص المقالة إلى أن خطاب منظمة الشفافية الدولية يغاب عليه تصور آلي للطبيعة البشرية على أنها عقلانية ونفعية. ويؤدي هذا إلى التركيز المفرط على إعادة البناء الهندسي (الهندرة) وتعزيز الإشراف والرقابة (لوضع :مثبطات" للفساد)، مع إهمال المكونات الاجتماعية والأخلاقية للسلوك البشري، فضلا عن العمليات السياسية التي تتولد عنها. ويجعل هذا المفهوم للسلوك البشري مفاهيم مثل "الأخلاق" لا تعدو كونها مجرد "قواعد" و"النزاهة" لا تعدو كونها "سلوكا مطابقا للقواعد"، و"الوقاية" لا تعدو كونها "سيطرة". وفي حين أن المقالة تناقش بعض الصعوبات التي تنطوي عليها معالجة الأخلاق، فإنها تخلص إلى أنه دون إعادة نظر منظمة الشفافية الدولية في مفهومها للطبيعة البشرية، فسيكون من الصعب عليها إعادة توجيه نهجها وتحسينه. كما يشير عنوان هذا العدد الخاص، يقصد منه إعادة تقييم طرق مكافحة الفساد. ففي البحث من خلال هذه الطرق عن حلول لمكافحة الفساد، نجد أنها تقع في مكان ما بين تنفيذ تدابير عالمية والتعامل مع سياقات اجتماعية محددة، وبين الرقابة الفنية وآليات العقاب واللجوء إلى الفضيلة. أما ما يجمع بين هذه الطرق فهو عدم نجاحها الكبير في الحد من الفساد. وعلى الرغم من جهود عشر سنوات من الإصلاح، لم يعرف عن أنشطة مكافحة الفساد الممولة من المنظمات الدولية والجهات المانحة الثنائية أنها فعالة (انظر على سبيل المثال Szeftel, 1998; Lindsey and Dick, 2002; Brown and Cloke, 2004; Kpundeh, 2004; Johnston, 2005; Doig et al., 2007; Heeks, 2007; Bracking, 2007; De Sousa, 2010; Persson et al., 2010). ومن المعروف عن مستويات الفساد أنه من الصعب قياسها، ولكن الانطباع العام يبدو واضحا لدرجة أن المنظمات الدولية الرئيسة لمكافحة الفساد نفسها تعترف بالنتائج المخيبة لآمالها وجهودها. وفي إستراتيجية الحوكمة ومكافحة الفساد الخاصة به، يلاحظ البنك الدولي أنه "بينما قد تم إحراز بعض التقدم في تعزيز قدرة الدولة والمساءلة في جميع أنحاء العالم، لا يوجد دليل كاف على أن هذا كان له تأثير كبير على الحد من الفساد الكلي بشكل عام" (World Bank, 2007: 40)(1). وتخبرنا المذكرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2004: 8/9) بأن "تاريخ جهود مكافحة الفساد ملئ بالبرنامج التي نجحت في البداية إلى أن قوضتها الحكومات المتلاحقة أو الأزمات الاقتصادية والسياسية فيما بعد"(2).ويوافق دليل منظمة الشفافية الدولية لمكافحة الفساد (2000: xx) على أن "الجهود الناجحة لإصلاح مكافحة الفساد كانت جميعها نادرة جدا، أما لجهود الفاشلة فعديدة" وتشير بحوث المنظمات غير الحكومية إلى أن العالم يشهد ارتفاعا في الفساد بدلا من الانخفاض، مما يلقي بظلال الشك على نجاح جهود مكافحة الفساد(3). وعلى الرغم من أنه لا ينبغي التسليم تماما بفشل جهود مكافحة الفساد التي كانت تقوم بها تلك الجهات العديدة، فإن انخفاض معدل النجاح يشير بوضوح إلى وجود مجال كبير للتحسين. لقد استمر البحث عن الإستراتيجيات السليمة منذ بدء جهود مكافحة الفساد في أوائل التسعينيات(4). وأثناء عقد التسعينيات من القرن الماضي، كان الفساد يعامل وكأنه أمر (فني) ناتج عن عدم كفاية التشريعات والعقاب (بدءا من تعهد منظمة الشفافية الدولية بمكافحة رشوة الشركات الدولية). وقد أدى البحث عن حلول أفضل- بسبب الفشل الواضح لبرامج مكافحة الفساد، وكذلك الانتقادات المتعددة من قبل الأكاديميين والناشطين للنهج المتبع- إلى زيادة اهتمام كبريات المنظمات الدولية لمكافحة الفساد، مثل منظمة الشفافية الدولية، والبنك الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالمؤسسات وتأثيرها على سلوك الأفراد (ما يسمى بــ "الهندرة المؤسسية").
في الوقت نفسه، ومع استمرار غياب النجاحات الواضحة للمنظمات الدولية لمكافحة الفساد، توسع انتقاد الأكاديميين من مجرد تسليط الضوء على التركيز المفرط والفني على التشريعات والعقوبات في خطاب هذه المنظمات ليشمل انتقاد الفهم المحدود للعمليات الاجتماعية والسياسية للكثير من جهود وبحوث مكافحة الفساد، والمفهوم الضيق للطبيعة البشرية أو السلوك فقد انتقد وارن (Warren, 2004)، على سبيل المثال، إهمال أدبيات مكافحة الفساد للروابط بين مفاهيم الفساد والديمقراطية والعمليات السياسية التي يتم من خلالها إنشاء أغراض ومعايير وقواعد مشتركة أما بولزر (Polzer, 2001) فقد انتقدت مفهوم البنك الدولي المحدود للسياسيين وإهماله للسياسة (التي يعتبرها أقل أهمية من الاقتصاد) فضلا عن تجاهله الآثار السياسية لأنشطة مكافحة الفساد. في الوقت نفسه، تقول بولزر: إن "الفرد الفاسد ينظر إليه على أنه شخص مستفيد لصالحه للدرجة القصوى ومستجيب للحوافز، وليس شخصا يميز الصواب من الخطأ" (2001: 20). وبالمثل، قام براون وكلوك (Brown and Cloke, 2004: 285) بلوم أنشطة المنظمات الدولية لمكافحة الفساد، وخاصة تلك التابعة للبنك الدولي بسبب إهمال الآثار السياسية السلبية المترتبة على تحرير الأسواق، وبسبب "سوء فهم الدولة" وبسبب "المفاهيم المشكوك فيها للدوافع البشرية" باعتبارها مصلحة ذاتية بحتة. أما براتسيس (Bratsis, 2003: 39) فيقول إن المفهوم الحديث للفساد يأتي من خلال تضييق الفجوة بين القطاعين العام والخاص بصرف النظر عن المناقشات السياسية اللازمة حول "ما نعتقد أن المجتمع الصالح". كما يبين بوكوفانسكي (Bukovansky, 2006: 182) كيف أن "التركيز المؤسسي الليبرالي الجديد على الشفافية والفصل بين السلطات ومحاسبة الحكومة" في المنظمات الدولية لمكافحة الفساد يؤدي إلى "إهمال الجوهر الأخلاقي لمفهوم الفساد" ويحجب "المشاكل الأساسية للسياسة والفضيلة" بدلا من معالجتها مباشرة. وبعد هذا الانتقاد الشديد، لا يمكن لمثل هذا الإهمال للطبيعة الاجتماعية والسياسية لمفهوم الفساد في تصميم سياسات مكافحة الفساد أن يمر مرور الكرام، وألا يخلف عواقب. وقد يتساءل المرء ما إذا كان هذا الإهمال مسؤولا- جزئيا على الأقل- عن عدم نجاح العديد من تلك السياسات- ومن الانتقادات الأخرى ذات الصلة تلك التي تتعلق باستمرار عدم وجود الحساسية الثقافية والمرونة السياسية داخل نشاطات المنظمات الدولية لمكافحة الفساد(5). فقد اتهم هنديس (Hindess, 2005) منظمة الشفافية الدولية بالترويج لمشروع غربي يتصف بالليبرالية الجديدة والإمبريالية الجديدة عبر مفهومها لنظم النزاهة الوطنية (NIS)، في حين أن براون وكلوك (Brown and Cloke, 2004) لاحظا الغطرسة والنفاق الغربيين تجاه جنوب الكرة الأرضية فيما يتعلق بالفساد، وكشفا أن الاتجاه العام في الممارسة وبحوث مكافحة الفساد هو اعتبار أن القواعد والمعايير الغربية صالحة عالميا. أما بوكوفانسكي (Bukovansky, 2006) فقد انتقد النموذج الغربي الليبرالي للمجتمع الذي يقدم من خلال البرامج التكنوقراطية للمنظمات الدولية لمكافحة الفساد على ما يبدو. غير أن أحد جوانب إصلاح مكافحة الفساد لم يتلق الكثير من الاهتمام حتى الآن. فالتحول المشار إليه أعلاه خلال العقد الماضي نحو الهندرة المؤسسية، أو "الوقاية"، كما تسميها منظمة الشفافية الدولية، فقد صاحبه انتشار لمفاهيم أخلاقية ظاهريا مثل النزاهة والأخلاق والصدق في خطاب المنظمات الدولية لمكافحة الفساد، وكذلك تركيز متنام على الحاجة للمزيد من تدابير مكافحة الفساد في سياقات محددة. وتنظر هذه المقالة بعين فاحصة إلى الجانب الأول. فعند التمعن في انتقاد السمات غير الأخلاقية والتكنوقراطية وذات النظرة الاقتصادية- الأدواتية لمعظم أنشطة المنظمات الدولية لمكافحة الفساد، فإن إدراج المصطلحات الأخلاقية صراحة في خطاب هذه المنظمات يستحق التوقف، ويطرح تساؤلات بشأن الطابع الأخلاقي لجهود هذه المنظمات. فهل صحيح أن جهود المنظمات الدولية لمكافحة الفساد تشهد بالفعل تغييرات من كونها اقتصادية بحتة تجاه كونها أخلاقيات صريحة تكافح الفساد؟ بالاعتماد على مثالنا عن منظمة الشفافية الدولية، تهدف هذه المقالة إلى دراسة طبيعة هذا "النهج الأخلاقي"، وتتساءل ما تعنيه هذه اللغة الأخلاقية لسياسات مكافحة الفساد في منظمة الشفافية الدولية. هل يعني ذلك أن منظمة الشفافية الدولية في طريقها فعليا لتكون "رائدا عالميا للأخلاق"(6) ضد الفساد، كما اقترح بوكوفانسكي (Bukovansky, 2006)؟ ما طبيعة هذه الأخلاق لمكافحة الفساد؟ وإلى أي مدى تسهم في التغلب على التركيز الفني والاقتصادي الذي انتقدت بسببه أنشطة المنظمات الدولية لمكافحة الفساد في العقد الماضي؟ وإلى أي مدى تمكن هذه الأخلاق المنظمات غير الحكومية من قيادة إصلاح سياسات المنظمات الدولية لمكافحة الفساد؟ وما علاقة هذا النهج الأخلاقي بالمطالبة بوجود حساسية أكثر تجاه السياق؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، تقوم هذه المقالة بتحليل خطاب مكافحة الفساد في منظمة الشفافية الدولية، وتركز بشكل خاص على مفهومي "النزاهة" و"الأخلاق" وسياقاتهما الخطابية.
|