ارسل ملاحظاتك

ارسل ملاحظاتك لنا







الفلسفة باعتبارها مكانا محايدا

المصدر: أوراق فلسفية
الناشر: كرسي اليونسكو للفلسفة فرع جامعة الزقازيق
المؤلف الرئيسي: المصباحي، محمد عزيز (مؤلف)
المجلد/العدد: ع23
محكمة: نعم
الدولة: مصر
التاريخ الميلادي: 2009
الصفحات: 199 - 210
رقم MD: 626299
نوع المحتوى: بحوث ومقالات
قواعد المعلومات: HumanIndex
مواضيع:
رابط المحتوى:
صورة الغلاف QR قانون

عدد مرات التحميل

49

حفظ في:
المستخلص: يفرض علينا هذا الزمن، الذي كثر فيه باسم الهوية التراشق بالانتماءات الدينية والتدافع بالولاءات العرقية والثقافية، ضرورة البحث عن مكان محايد يمكن للجميع أن يتواصل فيه، وأن يعبر فيه عن قضايا الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو منتم إلى هذه الثقافة أو تلك، ويعلن فيه عن وجهة نظره بحرية ونزاهة وعلانية بغض النظر عن أحكامه المسبقة، أو اختلافاته وصراعاته مع الآخر، مكان يمكننا من مساحة من الحرية نتخلص فيه من ولاءاتنا وأهوائنا، من حروبنا الطاحنة ضد الآخر أو رغبتنا في الذوبان فيه. ولا يمكن أن يكون هذا المكان المحايد الذي يسمح لنا بالإعلان عن ثقافة وحدة العقل سوى الفلسفة. لقد عرفنا الحداثة في مكان آخر بأنها "القدرة على إنشاء مكان محايد ومجال عام مشترك بين كل العقول وكل الحضارات، مكان تتساكن وتتحاور فيه تجارب الإنسانية الآتية من كل بقاع العالم ومن كل أزمنة الدنيا. وبالفعل، فإن ما نحتاجه اليوم في عالمنا هو بالضبط هذا المكان المحايد الذي يسمح لنا بحرية أكثر في التفكير والعمل، يسمح لكل العقائد والحساسيات الفكرية والثقافية بالوجود، ما نحتاج في زماننا هذا هو مكان شفاف نلتقي فيه ونتجاوز على أرضه حدود الأعراق والثقافات والأديان والإيديولوجيات". وإذا كنا نؤمن بأن مثل هذا المكان المحايد غير مستحيل على صعيد العقل النظري، لأن مؤسسات وسبل تبادل المعرفة بين العلماء أمر له قواعده الراسخة، والتي لا تستطيع الأحداث السياسية والأيديولوجية أن تؤثر عليه تأثيرا كبيرا، فإن المشكل يبقى فيما يخص العقل العملي. ذلك أن مشكلتنا اليوم، والتي ليست مشكلة العالم العربي الإسلامي فقط، وإنما هي مشكلة العالم الغربي نفسه، هي أن الجمهور أميل إلى تحويل آراء العقل العملي إلى معارف بل إلى حقائق وعقائد ثابتة. ومن البين بنفسه أن هذا التحويل ذو الطبيعة السفسطائية هو الوكر التي تتولد فيه الأصوليات والإيديولوجيات الإقصائية. وتاريخ هذا التحويل طويل، ابتداء من خرافة تقسيم الإنسانية إلى "غرب و "شرق" إلى القول بالطبيعة "القبل منطقية" للشعوب البدائية، فإلى "الطبيعة الحسية" وغير القابلة للتفلسف للشعوب العربية والعرق السامي، ثم إلى وسم الإسلام كله بالطابع الأصولي الإرهابي الذي لا يبقي ولا يذر... إن هذه العقائد الرائجة وغيرها هي مجرد آراء وظنون، بل هي أقرب ما تكون إلى تخييلات وأوهام، ولكنها تحولت عند رجل الشارع الأوروبي والأمريكي إلى حقائق راسخة تجري في الدم، وتنتج عنها سلوكات عرقية بالغة الخطورة. في هذا الجو المشحون علينا أن نعمل، كفلاسفة عرب ومسلمين، على خلق مساحة محايدة داخل الفكر البشري، قد لا تؤثر اليوم أوغدا، ولكنها ستؤثر حتما في الطريق السليم لإنتاج قيم إنسانية حقة. إن مبرر دعوتنا إلى مكان محايد هو أننا في هذا الزمن موضوعون أمام تحد عسير، يتمثل لا في إثبات تميز هويتنا، وإنما في جعل هذه الهوية المتميزة قادرة على التجاوب مع العالم المحيط بنا، وأقصد به العالم الغربي، والاستجابة للرهانات التي تطرحها شعوبنا. لقد مضى ذلك الزمان الذي كان لا يخجل فيه من يدعون الانتساب إلى مجتمع الفلاسفة من الدعوة إلى حزبية الفلسفة، واتهام الآخر بالمثالية واليمينية، وبالتالي رفض أي حوار معه. شيء من هذا ما زال قائما، لا سيما في بلداننا ذات التقاليد الثقافية العتيقة. إننا نعتقد بأن مثل هذا الموقف يضر أكثر مما ينفع، لأنه سيمنعنا من تدفق المعلومات والتحاليل والتصورات. إن الفلسفة بالرغم من أنها تأتي في المساء، وبالرغم من أنها ذات طبيعة نقدية تجعلها في يقظة مستمرة حيال كل ما يهدد إنسانية الإنسان، فإنها تبقى تجربة منفتحة على كل الاحتمالات، وكل الآفاق، رغبة منها في صياغة قواسم مشتركة بين مختلف الحساسيات الفلسفية والثقافية. فالمكان، كما يشير إلى ذلك ابن عربي، فسيح ولا معنى للمزاحمة فيه. إننا يجب أن نبرهن على العقل في الإسلام ليس فقط، كما يقول جرونباوم، شهادة على العناية الإلهية بالإنسان (8)، بل إنه ما يجعل الإنسان خليفة الله في أرضه، إن لم يكن هو نفسه خليفة الله في الأرض، كما قال أبو حيان التوحيدي (9)؛ وهذا الاستخلاف لا يمكن أن يجد معناه إلا إذا حول الإنسان العقل إلى أداة خلق وإبداع، أداة قوة ومناعة، أداة علم وصناعة، أداة أخلاق ونظام، أداة ثقافة وحضارة. وهذه الأفعال هي أفضل العبادات، لأنها، كان يقول ابن رشد، أفضل طريق للتقرب من الله.

عناصر مشابهة