ارسل ملاحظاتك

ارسل ملاحظاتك لنا







الموقف فى علم الكلام فى المغرب والاندلس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين: موازنة علمية بين موقفى ابن عبدالبر الأندلسى وابن خمير السبتى

المصدر: مجلة الإبانة
الناشر: الرابطة المحمدية للعلماء - مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية
المؤلف الرئيسي: البختى، جمال علال (مؤلف)
المجلد/العدد: ع2,3
محكمة: نعم
الدولة: المغرب
التاريخ الميلادي: 2015
التاريخ الهجري: 1436
الشهر: شعبان
الصفحات: 15 - 47
ISSN: 2335-9935
رقم MD: 751248
نوع المحتوى: بحوث ومقالات
اللغة: العربية
قواعد المعلومات: IslamicInfo
مواضيع:
رابط المحتوى:
صورة الغلاف QR قانون

عدد مرات التحميل

212

حفظ في:
المستخلص: انطلاقا مما تقدم يصح لنا القول بان موقف ابن عبد البر من الاشتغال بعلم الكلام وافق الخط العام لسلفية وعلماء المدرسة الفقهية والحديثية بالمغرب في عصر الطوائف والمرابطين، وهو رأي انطلق من أن البحث الكلامي لا تلجأ إليه ابتداء؛ إذ الأصل فيه النهي؛ ما دام أنه بدعة في الدين لم يشتغل بها المؤمنون الأوائل ، ولأن خوض بحر الكلام بالأدلة العقلية البشرية لا يعصم صاحبه من الوقوع في الخطأ، بل إن القياس العقلي في الغيبيات قياس فاسد . ومع ذلك فإنه يجوز عند الضرورة واذا توفرت الأدوات وأمن على المتكلم السني الوقوع في المحاذير والزلل أن يقتحم لجة الكلام دفاعا عن عقيدته، وحماية لعقيدة الأمة. وارتكازا على ما تقدم كان التقليد في نظر ابن عبد البر جائزا في أمور العقيدة بل مأمورا به بالنسبة للعوام، وهو جائز أيضا حتى في حق العلماء إذا حالت دون بحثهم في أحكام العقيدة الموانع المتنوعة. ولكن هل يفهم من هذا التقسيم أن ابن عبد البر يشجع العلماء على خوض البحوث النظرية في حال عدم مس الحاجة لخوض الجدل الكلامي؟ لا يبدو ذلك موضوعيا بالنظر إلى موقف ابن عبد البر من علم الكلام جملة ، ومن ثم تبقى حدود اجتهاد العالم متعلقة بالأحكام العملية ، ولا يباح له النظر في الاستدلال العقلي الكلامي إلا في حال الضرورة فقط. وبالمقابل اعتبر ابن خمير أن الأصل في علم الكلام الإباحة ؛ إذ النظر فرض على جميع المكلفين القادرين على إعمال الفكر، ولذلك كان الاشتغال بالعلم من آكد الأمور على العلماء دفاعا عن أركان الإيمان ، ودحضا لشبهات الخصوم . ولم يقتصر حكم وجوب النظر والبحث في تثبيت العقائد عند المفكر السبتي على هذه الفئة من المكلفين ، بل إنه تمادى وتجاوز دعوات المعتدلين من الأشاعرة إلى إلجام العوام عن الكلام ، ليقول بلزوم النظر الكلامي حتى بالنسبة للعامة. هكذا تتأكد لدينا حقائق وجوانب تستحق التوضيح في مواقف الرجلين ومدرستيهما المغربيتين من علم الكلام والاشتغال به سننتهي بالوقوف عند بعض الجوانب منها:

*الجانب الأول: ومضمنه أن الصراع المحتدم بين الاتجاه السلفي والاتجاه الكلامي في المغرب والأندلس رفع من حدة المواقف وغلوها، وولد ميلا لدى علماء الاتجاهين إلى الحكم إما بإلزام العامة البحث في دقائق الاستدلالات العقدية مع ما فيه من تكليف بما لا يطاق (وهوما عكسه موقف ابن خمير وجل من جاء بعده من الأشاعرة لاسيما الإمام السنوسي بعده)، وأما إلى الغلو في منع الاشتغال بعلم الكلام ، واعتبار المتكلمين جماعة من المبتدعة المنحرفين عن الهدي الإسلامي الصحيح (وهوما بينه موقف ابن عبد البر والكثير من السلفية في المغرب وقتئذ) . *الجانب الثاني: ويتعلق بموضوع وجوهر الصراع بين الاتجاهين، وكونه منبعثا من دوافع متعددة، ومستمدا من خصوصيات محلية ترتبط بالمواقف المذهبية والاختيارات الرسمية للأنظمة الحاكمة، فقد شكل الارتباط المصلحي بين السياسيين والعلماء أرضية توافقية حول المفاهيم والقيم والاختيارات المذهبية التي ترضي الطرفين، فصار للسلطة السياسية مهمة حاسمة في فرض القناعات الدينية الموافقة لمصلحة الحاكم من جهة، والمكرسة لموقف العلماء المراد استرضاؤهم من أجل ضمان ولائهم، وتأكيد مساندتهم ومهادنتهم، وفي هذا الإطار يأتي الموقف المرابطي من تداول كتب الكلام ، وتفسر الخلفيات الحقيقية من وراء ترسيم الأشعرية على عهد الموحدين (إذ الثابت أن ابن تومرت أمر بحفظ " المرشدة " وترجمتها إلى الأمازيغية، وعبد المؤمن ألزم بحفظ عقيدة المهدي، واستجلب العلماء الأشاعرة لتلقين التلاميذ والعلماء دقائق العقيدة الأشعرية ، وألزم ممثليه في المناطق وعناصر الشعب بتنفيذ الأوامر في ذلك وعاقب المخالفين ...) . بيد أن التوجيه السلطوي للاختيارات العقدية لم يكن ورقة حاسمة في فرض القناعات المذهبية بالصورة الشاملة، وإنما ظل هامش المخالفة ظاهرا بصورة مختلفة، وهذا ما يؤكده رواج الفكر الأشعري على عهد المرابطين السلفيين، (بروز أعلام كبار على رأسهم: الباجي، والمرادي، والضرير، وأبو بكر ابن العربي، والقاضي عياض وغيرهم )، ويثبته أيضا نص ابن خمير السابق الذي أكد وقرب ذلك العداء المستحكم الذي كان يواجه به الأشاعرة على عهد عبد المؤمن بن علي الموحدي وأبنائه من طرف الفقهاء والمحدثين وغيرهم ممن يتبنى قناعات ومواقف معادية للبحث الكلامي في العقيدة. * الجانب الثالث: المستفاد من مواقف ابن عبد البر وابن خمير في موضوع الاشتغال بعلم الكلام ، متعلق بالصراع الحاصل بين السلف (فقهاء ومحدثين ) وبين المتكلمين (وخصوصا الأشاعرة منهم)، عبر تاريخ الإسلام العام. وهو صراع منشؤه الاختلاف المنهجي والغرضي في البحث العقدي، فقد ركز النقاش بالمنع والإباحة على جوانب لم يقع لمقيح المناط فيها، فإذا كان السلف قد حرموا الاشتغال بعلم الكلام لأنه بدعة في الدين ، لم يسلك الصحابة والتابعون طريقه في العصر الأول، ولأن طريقه غير مأمونة " لأنه يخوض في عالم غيبي لا لثال حقائقه بالبحث والتجربة الإنسانية القاصرة ، فإن الموانع غير المصرح بها، أو التي استعصى على السلف الأول البوح بها، تتمثل في نوع الآليات المستعملة لدى المتكلمين (وخصوصا ذوي الأنساق الفكرية المعتبرة، كالمعتزلة والماتريدية والأشاعرة)، الذين اعتمدوا أرضيات ووسائل تبين أن بعضها يحمل من النسبية الفكرية الشيء الكثير، بل إن البناءات الاستدلالية للمتكلمين لم تنتج حلولا يقينية تجيب عن الكثير من الإشكالات المنطقية المطروحة على الفكر الإسلامي عموما. كما أن الخلاف المذهبي هذا مرتبط أيضا بالبعد المقاصدي للدرس والبحث الكلامي، فإذ ا كان السلف بمنعهم الخوض في علم الكلام قد اعتقدوا أنهم سيجوا أنفسهم وجعلوها في مأمن من التأثر بالأفكار والمناهج الدخيلة ، فهل كان في المنع دائما حل للمشاكل الواردة والمتجددة، وهل غاب عن السلف أن مهمة الدفاع عن العقيدة مهمة تتصدر كل الأولويات ، وأن المتكلمين قد تجشموا الصعاب والمشاق في القيام بهذا الواجب؟ أعتقد أن الفتاوى التحريمية لم تنتج ثقافة حوارية مقنعة عبر التاريخ الإسلامي، ورغم أنها أفرزت جماعة من العلماء تمكنوا من حفظ النصوص التوقيفية وضبط القواعد الممكنة من حفظ التراث، إلا أنها مع ذلك لم تحل دون تجاوز الفتاوى التحريضية المنغلقة، بدليل اختلاف متأخري المحدثين والسلفيين في الموقف الرسمي من الكلام، وميل الفئة العريضة إلى إباحته الأصلية ردا على الشبهات ومناقشة للمخالفين، بل لقد خلخل جماعة من كبار علماء السلف والحديث قاعدة المنع ، أو الإباحة المشروطة -على رأي ابن عبد البر وجماعة من السلف -، وأعلنوا بل انخرطوا في البحث الكلامي مقدمين صورا رائدة، وأنساقا رفيعة في التصورات والقناعات الدينية العقدية كما هو الحال بالنسبة لابن حزم ، وابن تيمية، وابن القيم ، وابن حجر، والنووي ، والسيوطي وغيرهم. *الجانب الرابع: إن الحديث عن البحث الكلامي وقيمه لا بد أن يستحضر أن التراث الإسلامي المتعلق بالاجتهاد البشري في ضوء النصوص المصدرية الشرعية مرتبط بعنصري الزمان والمكان ، وأي نفي للصيرورة وللتحول، والنزوع نحو السكونية اللاتاريخية التي يتكرر فيها الماضي والحاضر والمستقبل تجعل عملية التجديد الفكري لأمور العقيدة هروبا من العصر وارتماء في أحضان الفكر الماضوي ، وإعادة لتجارب تاريخية ربما نجحت في زمانها ، ولكن نجاحها في هذا الأوان أمر مستبعد إن لم يكن مستحيلا. وعلم الكلام تتجلى قيمته في كونه علما يميز فيه بين الإلهي والبشري، فالجانب الأول المتعلق بالأركان مقدس وثابت، أما الجانب الثاني فهو متعلق بقدرات الفكر الإنساني في مجهوده الدفاعي عن العقيدة ، وهو بالتالي خاضع للتجاوز والخطأ. ومن ثم لم يكن عمل الإنسان فيه مما يستحق التقديس ولا التنزيه ضرورة . وعليه فان الدعوة إلى العناية بعلم الكلام وتجديده المتجاوزة لسؤال الإباحة والمنع في البحث الكلامي التقليدي، تقوم على قناعة مؤداها أن التجديد في علم الكلام ينبغي أن ينصب على تطوير الجانب البشري الاجتهادي فيه لا على جانب الثوابت الدينية، (ومن هنا ترتفع حجة المعترضين على الاشتغال بهذا العلم الجليل) ، ولكن هذا الموقف بقدر ما يدعو إلى رفع الوصاية على العقل، بقدر ما ينادي بضرورة الاستفادة من الإنتاج العقلي الإسلامي وفق القواعد الموضوعية، وفي ظل الشروط العلمية ، والحقائق التجريبية التي لا ينازع في علميتها، ولا يستحق صفة العالم والباحث من أنكر صدقها ومعقوليتها؛ لأن علم الكلام لا بد أن يمثل روح العصر، وينفتح على المكاسب الهائلة للعلوم الراهنة ، والتخلص من عقدة التعامل مع معطيات العلم الحديث.

ISSN: 2335-9935