المستخلص: |
تنبثق مشكلة الدراسة من حقيقة أن الفكر الإداري يركز على إدارة المعرفة وفق منظور جزئي يعالج مسائل المعرفة على مستوي المنظمات بحسب، وهو بذلك يُغفل الأسئلة الكبرى في سياق المعرفة الإنسانية ومستقبلها، مما يجعله بعيدًا عن التفكير المعمق والاستشراف الواعي للفرص والتحديات المعرفية الضخمة وتأثيراتها المحتملة على الاقتصاد والتنمية، ويتجسد الهدف الرئيس للدراسة في تحليل وتشخيص وإبراز مشكلة تركيز الفكر الإداري على المنظور الجزئي في التعامل مع المعرفة وتوضيح الآثار المترتبة على ذلك، واقتراح منظور بديل يتمثل فيما أسمته الدراسة بـ "المنظور الثقافي الحضاري، كما تستهدف الدراسة القيام بعملية استشراف لمستقبل المعرفة الإنسانية لتمكين الفكر الإداري من استكشاف وتحليل مؤشرات مستقبل المعرفة ومسارات تطورها، مما يرفع من قدرات وجاهزية لا المنظمات فحسب، بل الدول أيضًا على استغلال الفرص المعرفية المواتية في فضاءات الاقتصاد المعرفي، وتجنبيها أكبر قدر ممكن من التهديدات والمخاطر المعرفية المحتملة. ولتحقيق أهدافها اعتمدت الدراسة على المنهج التحليلي النقدي الاستقرائي الاستنتاجي؛ في إطار منهجي ينهض على المنظور الثقافي الحضاري الذي يتوجه لدراسة الظواهر مع مراعاة الأطر الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية. وقد أوضحت الدراسة كيفية تلبس إدارة المعرفة بالمنظور المقترح، كما خلصت إلى أن المعرفة مرت وستمر بست مراحل (موجات) متداخلة وهي: (1) اللامعرفة أو المعرفة البدائية، (2) المعرفة المحدودة، (3) المعرفة الموسعة، (4) المعرفة المسلّعة، (5) المعرفة الفوضوية، (6) المعرفة المتآكلة، وقد أبانت الدراسة عن خصائص كل مرحلة مع إيضاح بعض الفرص والتهديدات المعرفية والعديد من الشواهد والانعكاسات الإدارية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. يتجه بعض الباحثين إلى وصف البشر بأنهم "مخلوقات معلوماتية"، فحياتهم قائمة على الاشتعال بالمعلومات تحصيلًا وتحليلًا وتشغيلًا في جميع مناحي الحياة (ماكجرودي، 2001: 223)، وقد عمد الفكر الإداري الحديث إلى خلق صورة جديدة للمنظمة باعتبارها منظومة تجمع بين مستخدمي المعرفة ومنتجيها (Ferguson et al., 2010)، وتشير الممارسات العملية للعديد من منظمات الأعمال أنه يمكن تحصيل منافع متنوعة من جراء تفعيل إدارة المعرفة Knowledge Management وقد أوضحت إدارة المعرفة "سلاحًا إستراتيجيًا" لتحقيق النجاح في مجالات عدة (Choi & Lee, 2002)، وذلك- على سبيل المثال- أن شركة مختبرات بوكمان Buckman Laboratories وجدت أن استخدامها لأنظمة نقل المعرفة والممارسات الجيدة في مجال عملها بدءًا من العام 1992 قد أسهم في زيادة إيرادات المنتجات الجديدة بنسبة 10% وقد وصل في مراحل تالية إلى ما يقارب 50% (Shin, 2004)، ليس ذلك فحسب بل ثمة إيمان متزايد من قبل المنظمات بأهمية إدارة المعرفة في نجاحها المستقبلي مع الإقرار بوجود مشاكل كبيرة تعانيها المنظمات في سياق المعرفة، ومن ذلك كيفية التعامل مع المعرفة الضمنية Tacit Knowledge، ونقص السياسات الجيدة في إدارة المعرفة والإغراق المعرفي؛ بتوافر كمية كبيرة من المعرفة مع قدرات قليلة على تفعيلها والانتفاع بها (Shin, 2004). وهنالك من يؤكد أنه يجب على المنظمات إذا ما أرادت أن تتعامل بفعالية مع البيئة المتغيرة أن تبتكر معرفة (Gore & Gore, 1999)، ويثور هنا سؤال جوهري: كيف يمكن لها أن تخلق المعرفة وهي معزولة عن التفكير في مسارات المعرفة المتوقعة وتحولاتها المستقبلية؟
يسعنا القول بأن المنظمات لا يمكنها إيجاد المعرفة ولا توسيعها وهي غير قادرة على استشراف مستقبل المعرفة وتحديد الفرص والتهديدات المحتملة في عملية استشرافية تتسع للأحداث والمتغيرات المؤثرة التي قد تحمل تأثيرًا كبيرًا على أنشطة المنظمات وعملياتها وأرباحها بما في ذلك المنظومة المعرفية التي تتعاطي معها؛ خاصة أن العالم المعاصر يتعرض لمشاكل كبرى، منها التلوث البيئي والاحتباس الحراري والفساد والجرائم والعنف (أو ما يُعرف بالإرهاب)، ويُتوقع زيادة تأثيرات تلك المشاكل وتفاقم انعكاساتها على الحياة البشرية (منصور، 1996؛ تيلفورد، Marien, 2007; 2001)، والأمثلة في هذا السياق كثيرة ومنها ما حدث لشركات الطيران بعد أحداث العنف (الإرهاب)، حيث تعرضت لهزات عنيفة بل تعرض بعضها للإفلاس أو التوجه الاضطراري للاندماج مع شركات أخرى وقد أوجد ذلك حاجة ماسة إلى خلق معرفة جديدة وتناقلها بطرق جديدة أيضًا كالمعلومات التفصيلية عن الركاب ونحو ذلك، مما بات يدخل ضمن المعرفة الضرورية لقيام تلك الشركات بأنشطتها، مما يؤكد حتمية التفكير بالمنظور المستقبلي للمعرفة، ونحسب أن الفكر الإداري مُطالب بتوسيع مناهج تفكيره وتطوير أدوات تحليله لتشمل استشرافًا ذكيًا لمستقبل المعرفة بما يعود بالنفع الإستراتيجي على المنظمات باستغلال الإيجابيات والفرص وتجنيبها قدر المستطاع المخاطر والتهديدات ومعاونتها على تجنب نقاط ضعفها وقصورها. ولقد أشارت بعض الأبحاث إلى أن الأفكار الجديدة في المنظمات تحتاج إلى أن تختبر وفق منهجية علمية، وحين ننظر إلى تلك المنهجية نجد أنها تتطلب استشرافًا للمعرفة، ومن ذلك ما اقترحه "موريس" حيث يري أن تلك المنهجية يجب أن تتضمن تحديد التغيرات المحتملة في السوق والتقنية والاكتشافات العلمية وأنشطة المنافسين وبراءات الاختراع الحالية والمحتملة مع التعرف على الاحتياجات المتجددة للعملاء (Morris, 1999). يقرر بعض الباحثين أن المعرفة والأفكار ستقودان عملية تكوين الثروة والتحديث في العقود القادمة (هارتلي، 2007). ويذهب "هوكنز" (2007) إلى أن التفكير الاعتيادي في "مجتمع المعرفة" غير كافٍ على الإطلاق؛ ذلك أنه يعجز عن تحقيق أهداف التنمية والوفاء بمتطلبات النهضة، فذاك هو شأن الإبداع، وبشكل أكثر تحديدًا يؤكد "فلوريدا" أن الإبداع هو "مصدر الميزة التنافسية" (Florida, 2002: 5)، وقد أضحي الإبداع والتميز في إدارة المعرفة شرطًا رئيسًا لبناء "الاقتصاد المعرفي" (عوض وعوض، 1998؛ هارتلي، 2007؛ فلو، 2007؛ توفلر وتوفلر، Stevenson, 2005: 2008:Hsu et al., 2008). والحصول على المزايا التنافسية المستدامة مع توافر شروط معينة وعلى رأسها ندرة تلك المعرفة وعدم توافرها لدي المنافسين وعدم قابلية تلك المعرفة للمحاكاة والتقليد، بالإضافة إلى امتلاك المنظمة للقدرة لا على خلق المعرفة فحسب بل على نشرها وتطبيقها بفاعلية أيضًا (Sowrey, 1989; Gordan, et al., 1997; Das & de Ven, 2000; McEvily & Chakravarthy, 2002; Chen & Huang, 2007; Chalhoub & Beyrouti, 2007; Massa & Testa, 2009). ويشدد بعض الباحثين العرب على أن "قوة الدول وتقدمها أصبحت تُقاس بحجم ما تنتجه وتوظفه من معارفها أو تسوقها من منتجاتها وأصولها المعرفية والتقنية"، وهذا ما يدفع إلى القول بأن "الأمر نفسه ينطبق على المنظمات المعاصرة التي تتنافس هي الأخرى على امتلاك ناصية المعرفة الجديدة ذات العلاقة" (الكبيسي، 2009: 562- 563)، وكل ذلك يؤكد أهمية تطوير الأطر الفكرية والمفاهيمية والمنهجية لحقل إدارة المعرفة في الدول العربية على وجه التحديد، نظرًا لضعف البنية التحتية للمعرفة في تلك الدول.
|