المستخلص: |
العصور الوسطى تسمية أوربية تعبر عن فترة ركود وظلام توسطت بين الحضارة الرومانية القديمة والنهضة الصناعية الحديثة, وهذه العصور المظلمة في أوربا كانت عصور الازدهار والتمدن في العالم الإسلامي. لكننا نستطيع أن نطلق اسم العصر الوسيط على العصر الذي تغيرت فيه اتجاهات العلوم والمعارف الإسلامية، وتحددت لها صياغات مختلفة عما كانت عليه قبل ذلك, وتكونت فيه مرجعيات فكرية تميزت بقدرتها على التأثير لقرون متمادية حتى عصرنا الراهن, ولابد من دراسة الفكر الإسلامي في هذا العصر الوسيط لمعرفة عناصره المؤثرة وأسباب حضوره المتواصل, والغزالي وابن تيمية هما من أكثر المفكرين تأثيرا وحضورا في منظومات الفكر السني خلال العصر الوسيط وحتى العصور اللاحقة. من جهة الأرضيات وطبيعة الظروف والعوامل التاريخية والسياسية, التي ساهمت في إظهار الفروقات بين "الغزالي" و"ابن تيمية" بالشكل الذي يفتح إمكانية المقارنة والمقاربة, المعارضة والمتباينة بينهما, وبما يضع الخطاب الفكري لابن تيمية مقابلا ومجادلا لخطاب "الغزالي" الفكري في تحدد بالأمور التالية: أولا: عاصر "الغزالي" الحروب الصليبية سنة 490ه / 1095م, وعاصر "ابن تيمية" الغزو المغولي سنة 656ه / 1260م, واختلفت المواقف بينهما بصورة شديدة التعارض, فالغزالي كان في عزلته الاختيارية بنهج التصوف الذي سلكه, ولم يسجل لها لتاريخ موقفا عمليا من تلك الحروب التي وضعت العالم الإسلامي أمام تحد خطير, فلم يتخل عن عزلته أو يصدر فتوى بالجهاد في مقاومة العدو الأجنبي, وقد ظلت هذه القضية يتساءل حولها الدارسون ومنهم المعاصرون أيضا, وهناك من انتقد "الغزالي" على موقفه, وهناك من حاول التبرير له كالباحث الإيراني "عبد الحسين زرينكوب" حيث يقول "لماذا يلام الغزالي الذي لم يترك العزلة في فتنة شروع الحروب الصليبية؟ فقد كانت كل حياته تلك السنوات جهادا مع النفس, فلا يمكن نسيان جهاده مع نفسه بجهاد الغير في سقط في العلائق التي خسر منها" (2) أما الدكتور "البوطي" فيعتبر هذا الأمر من الأوهام التي ألصقت بالغزالي ظلما, فبعد أن يصور تلك الحروب على أنها داخلة في دائرة الفروض الكفائية, يرى في "حراسة العقائد الإسلامية والتبصير بأحكام الشريعة الإسلامية, وحمايتها من العبث والدخيل, أيضا من الفروض الكفائية التي لا يجوز إهمال القدر الأساسي منها, ولا يجوز إبطال فرض كفائي بمثله, فكيف عندما يكون الحارس لعقائد الإسلام ومبادئه, هو حجة الإسلام الغزالي" (3) في المقابل سجل التاريخ لابن تيمية, مشاركة فاعلة في مواجهة عودة التتر إلى بلاد الشام سنة 700ه, وأعلن الجهاد وحرض على المقاومة وبث الحماس في نفوس الناس وخاطب الحكام وأمراء الجيوش بضرورة التصدي والدفاع عن بلاد الإسلام. ثانيا: عاصر الغزالي دولة السلاجقة في العصر العباسي, وارتبط بعلاقات وطيدة مع حكام عصره في خراسان وبغداد, وكان مقربا منهم, خصوصا بعد اختياره لمركز الأستاذية في مدرسة النظامية ببغداد, وكسب حمايتهم, واستفادوا منه في كسب شرعية مقاومة المعارضين لهم, وبالذات من كتابه "فضائح الباطنية" الذي وظف كوثيقة اتهام لغرض ممارسة القمع والبطش بالمعارضين من الجماعات الإسماعيلية التي قويت شوكتهم آنذاك, وقد ظل "الغزالي" لآخر حياته مقربا ومطيعا للسلاطين, وبعبارة الدكتور "فهمي جدعان" ربط نفسه بسلطان عصره ملتزما بأن يدافع عما يطلب إليه الدفاع عنه, ومتصديا لما يأمره بالتصدي له" (4) في حين عاصر "ابن تيمية" دولة المماليك (648ه – 923ه / 1250- 1517م) ، التي شهدت صراعات سياسية متتالية بين الحكام, ونزاعات وخلافات أثرت على عدم استقرار الحياة العامة في مصر وبلاد الشام واضطراب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، نتيجة عزلة حكام المماليك عن الناس, وبسبب غربتهم وعقدتهم كمملوكين, وعدم انتمائهم الواضح إلى الأمة, وارتباطهم الوثيق بالدين. وقد وجد بعض المؤرخين في هذا العهد ما يستوقف الاهتمام, حيث وصفه الباحث الإنجليزي "دافيد أيألون" في كتابه "ظاهرة المماليك في الشرق الإسلامي" بأنه نظام فريد من نوعه, ولا نقع على ما يشبهه في الحضارات القديمة, وبعكس "الغزالي" لم يشتهر عن "ابن تيمية" ارتباطه بالسلاطين أو تقربه لهم, بل كان مصادما لسياساتهم الفكرية والدينية, ومتعارضا مع العلماء والفقهاء المقربين منهم, وتعرض بسبب ذلك للسجن والاعتقال والاضطهاد, ووصفت حياته بالمحنة. ثالثا: لقد ظل "الغزالي" متوافقا ومندمجا مع النظام الفكري والديني السائد في عصره, بل كان جزءا أساسيا من ذلك النظام الفكري, مكونا له ومدافعا عنها, ومعبرا عن أيديولوجية السلطان, ومضفيا الشرعية عليها, بخلاف "ابن تيمية" الذي دخل في صراعات ومواجهات مع العلماء والفقهاء والمتصوفة في عصره, وتعرض للتحقيق والتفتيش والامتحان في عقيدته وأفكاره, واتهم بالخروج عن الإجماع ومخالفة السياسات الدينية السائدة في عصره, فمن قضية الرسالة الحموية سنة 698ه, التي أجاب فيها عن سؤال حول صفات الله تعالى, بما يخالف أهل الكلام في عصره فأثار حفيظتهم وتألبوا عليه. إلى تعرضه لامتحان في معتقده سنة 705ه بمرسوم من السلطان يدعوه لحضور جلسة مع القضاة والفقهاء للتباحث والتحقيق في صحة وسلامة عقيدته, وعقد له أكثر من مجلس وطلبوا حضوره إلى مصر في قضية أخرى حين ادعى عليه القاضي "ابن مخلوف" المالكي في أنه يثبت الصفات الخبرية بما يقتضي التجسيم, وانتهى به الأمر إلى السجن, وتكررت معه هذه المشكلة سنة 707ه, وهكذا في سنة 720ه, حينما خرج عن إجماع المذاهب الأربعة في قضية الطلاق بالثلاث, والطلاق البدعي الذي يقع في حالة الحيض, والطلاق المعلق بشرط غير معتبر, وتعرض بسبب تمسكه برأيه في هذه القضية إلى محاكمة العلماء والفقهاء والقضاة وانتهت به إلى السجن. وقد ظل على هذه الحال في مخالفته للسياسات الفكرية والدينية إلى أن توفى في سجن القلعة بدمشق سنة 727ه, لاشك أن هذه الوضعيات والسياقات واختلاف البيئات أثرة بصورة كبيرة في تكوينات الفكر والمعرفة ومناهج البحث والنظر بين "الغزالي" "وابن تيمية" وأظهرت الفروقات بينهما, وتأثيراتهما على حركة واتجاهات المعارف والأفكار الإسلامية.
|