المستخلص: |
تكمن بؤرة المشكلة في قطاع التعليم العالي، من ناحية في النمو السريع للكلفة من دون زيادة موازية في نواتج التعليم وعوائده، ومن ناحية ثانية في صعوبة توظيف هذه النواتج إن وجدت داخل الدورة الاقتصادية. فأهداف النمو والتنمية لا ترتبط بتراكم رأس المال البشري فحسب، بل تعتمد كذلك على استمرار تدفقه بمواصفات جيدة، وتمكن المجتمع وقطاعات الاقتصاد من استخدامه والاستفادة منه كما ينبغي. وعلى هذا الصعيد حقق لبنان معدلاً قريباً من متوسط الدول المتوسطة الدخل في دليل رصيد رأسمال البشري (0,51)، وكان معدله أعلى من المتوسط في دليل تدفق رأسمال البشري، لكن نتائجه كانت متدنية في ما خص دليل الاستفادة من رصيد الرأسمال البشري، ما يثبت أن لدى الاقتصاد اللبناني قدرة محدودة على استيعاب مخرجات التعليم العالي، تلك التي لا تترك أثراً يذكر في مؤشرات الأداء الاقتصادي العام. ومن أسباب ذلك: أولاً: ارتفاع كلفة التعليم العالي مقارنة بجودة عوائده، وهذا يعود إلى: 1- فائض الإنفاق على التعليم العالي غير الحكومي، ونمو الطلب بمعدلات تفوق نمو العرض. وقد فاقم من انعكاسات ذلك على التكاليف، تحول التعليم الجامعي في لبنان تدريجياً إلى قطاع موجه إلى الداخل، حيث تناقصت نسبة غير اللبنانيين المنتسبين إلى جامعات لبنانية من 57,3 بالمئة عشية الحرب الأهلية إلى أقل من 12 بالمئة عام 2000-2001( )، وهذا دليل آخر على أن ارتفاع كلفة التعليم قياساً إلى عوائده أسهم في تدني الفعالية ما يهدد بخروج لبنان تدريجياً من المنافسة الإقليمية. 2- الافتقار إلى مخطط توجيهي عام للجامعات يضبط توسعها على إيقاع الحاجات الاجتماعية والمناطقية والاقتصادية. فنتيجة التوزيع العشوائي للجامعات وكثافة تأسيسها في فترة زمنية قصيرة نسبياً (1999-2004) على قاعدة الزبائنية السياسية والمحاصصة، برزت ظاهرة التجهيز الزائد على المستوى الوطني، ووجدت مؤسسات جامعية عدة تعمل بأقل من الطاقة القصوى، ما أدى إلى رفع متوسط الكلفة، المرتفعة أصلاً بسبب التحويلات والتدفقات المالية التي تضغط على أسعار الخدمات غير المتداولة دولياً 3- عدم وجود نص قانوني ملزم، يشدد على أن التعليم العالي هو "سلعة عامة" لا سلعة تجارية، كما هو الحال في بلدان عربية وأجنبية. هذا بغض النظر عما إذا كان القطاع العام أو القطاع الخاص هو من يتولى توفير خدمات التعليم. إن نصاً كهذا سيمنع دخول المستثمرين الباحثين عن أرباح طائلة إلى هذا القطاع كما يحصل الآن. ثانياً: لم يحقق الاستثمار في التعليم الخاص وفورات خارجية (Positive Externalities) تذكر، كان من شأنها تحسين البيئة العامة التي يعمل فيها الاقتصاد. ونشير هنا إلى سببين يقفان وراء ذلك: 1- انخفاض نسبة مخصصات البحوث إلى مجموع موازنات الجامعات الحكومية وغير الحكومية، فباستثناء الجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة البلمند، وجامعة بيروت العربية، تخصص الجامعات السبع وثلاثين الأخرى وكل الجامعات التي أسست حديثاً نسباً ضئيلة من موازناتها للبحوث، في ما تذهب أغلبية هذه الموازنات إلى الإنفاق على البنود التقليدية والجارية( ). 2- مع أن مؤشرات التعليم العالي جيدة في لبنان قياساً إلى البلدان الأخرى، فإن انعكاساته الاقتصادية ستظل ضعيفة ما لم يحقق البلد تقدماً على مستويات عدة، ومن بينها المسارات الأربعة التي تشكل دليل اقتصاد المعرفة KEI والتعليم هو واحد منها. وعلى سبيل المثال فإن لبنان متقدم على كل من تركيا وتونس في المكون الخاص بالتعليم في هذا الدليل، لكنه يتأخر عنهما معاً في مؤشر التجديد والابتكار وعن تركيا وحدها في دليل فعالية النظام الاقتصادي. ثالثاً: حتى الآن ليس هناك عدالة نسبية في توزيع التعليم العام والجامعي في لبنان بين الفئات والمناطق، مع أن هذا يعد شرطاً مهماً لتحقيق الفعالية الاقتصادية والتنموية للقطاع وللاقتصاد. وقد تبين لنا سابقاً، كيف أن الكلفة الباهظة للتعليم العالي الخاص في لبنان، لا تلائم إلا جزءاً صغيراً، من فئة أصحاب المداخيل العليا، لاسيما مع استبعاد التحويلات والإعانات والتقديمات الاجتماعية، التي قد تعدل هذه الصورة قليلاً. وإذا تتعبنا التغير في نمط إنفاق الأسر بين عامي 1997 و2004، بعد إهمال أثر ارتفاع الأسعار، يتبين أن الفئات الدخيلة الواقفة عند حافة خط الفقر، انخفض إنفاقها على التعليم إلى النصف تقريباً نسبة إلى مجموع إنفاقها، بينما ارتفع إنفاق الشريحة العليا على التعليم في المدة نفسها من 9 بالمئة إلى 14,5 بالمئة تقريباً، وهذا يعزز القناعة بتراجع عدالة توزيع التعليم العالي.
|