المستخلص: |
الخطاب ليس مجرد كلمات تُلقى، إنما هو رسالة ذات مضمون فكري بين له أهدافه ودلالاته المؤثرة, باعث على التشكل في الفعل الإنساني لدى المخاطب أو المخاطبين, سواء كان صادراً عن الفرد أو الجماعة. والتعريف المتداول للخطاب في المراجع الحديثة هو: كل نطق أو كتابة تحمل وجهة نظر محددة من المتكلم أو الكاتب, وتفترض نية التأثير على السامع أو القارئ مع الاهتمام بمجمل الظروف والملابسات التي تمت فيه. والخطاب إذا أخد نمطاً تقليدياً فإنه يصبح خطاباً خلقاً بالياً, الأمر الذي يستدعي صقله وإعادة صياغته في إطار يتناسب مع الزمان والمكان ومختلف الجماعات البشرية. هذا هو المقصود بـ (تجديد الخطاب). ولابد من الإشارة إلى أن الخطاب الديني ليس ممثلاً بنصوص الوحي من القرآن والسنة, فالإسلام رسالة السماء الكاملة المتضمنة لكل ما يحتاج إليه البشر عبر الزمان والمكان, إنما المقصود به (خطاب المسلمين) – أفراداً وجماعات – ذلك الخطاب الذي يمثل فهمهم للإسلام وقراءتهم نصوصه, ونطقهم أفكاره ومفاهيمه وتعاليمه وآدابه وحكمه وتشريعاته. لقد تمثل منهج الجمود على النص في الفكر الإسلامي بآراء الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ), الذي يرى أن لا مكان لإعمال العقل أو تخريج الفكر مادامت الأمور واضحة المحجة ظاهرة النهج غير معوجة ومن ثم فقد نفر من أهل الكلام ورفض أرائهم وكفرهم. وقد أخذ التيار السلفي وعلى رأسهم ابن تيمية (ت: 728 هـ) من حيث المنطلق بمنهج الإمام أحمد بن حنبل, إذ انتهوا إلى أنه ليس للعقل سلطان في تأويل القرآن وتفسيره أو تخريجه إلا بالقدر الذي تؤدي إليه العبارات وما تضافرت عليه الأخبار. وإذا كان للعقل سلطان بعد ذلك فهو التصديق والإذعان وبيان تقريب المنقول من المعقول وعدم المنافرة بينهما, فالعقل شاهداً, ولا يكون حاكماً. ويكون مقرراً مؤيداً, ولا يكون ناقضاً أو رافضاً, ويكون موضحاً لما أشتمل عليه القرآن مع الأدلة. وأنت إذا تأملت منهج الجمود على النص, وجدت له خصائص أظهرها: (1) الاستغراق الكامل في النصوص, والوقوف بصفة خاصة عند الأحكام الفرعية التي تُستخلص من هذه النصوص, والوقوف – فوق ذلك – ند ظواهر تلك النصوص, واعتبار ذلك من علامات الإتباع المحمود, الذي يقابل الابتداع المذموم, والتوقف عن البحث الطويل في حكمة التكليف ومقاصد التشريع وأولويات المطالب الدينية للأفراد والأمة. (2) إساءة الظن بكل مذهب أو رأي أو اجتهاد يدعو إلى استخدام العقل والتعويل عليه في استنباط الأحكام الفقهية وتقرير الأمور الدينية, واعتبار هذا الاستخدام تهديداً لقدسية الشريعة!! ومدخلاً لتحكيم الهوى. (3) المبالغة في تقديس أراء علماء القرون الأولى من تاريخ الإسلام, فأصحاب هذا المنهج يستندوا في مشروعية أرائهم إلى أقوال بعض علماء الإسلام, دون الاستشهاد بالمرويات عن أئمة أهل البيت(ع)!! متناسيين أن أعلام القرن الأول والثاني والثالث الهجري كانوا من تلامذة أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.فمن يجرؤ على إنكار تلمذة عبد الله بن مسعود وابن عباس على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع),وتلمذة سعيد بن المسيب على الامام على بن الحسين زين العابدين وتلمذة أبي حنيفة النعمان على الامام جعفر بن محمد الصادق (ع), وهو – أبو حنيفة – القائل: لولا السنتان لهلك النعمان, ويقصد بذلك السنتين اللتين قضاهما على الإمام الصادق في الكوفة. (4) المبالغة في رفض كل فكرة وافدة, والحذر الشديد من الأخذ بشيء مما عليه أتباع الحضارات الأخرى, والانحصار بذلك في الإسلام التاريخي والإسلام الجغرافي, اعتقادا منهم بأن غير المسلمين متآمرون أبداً على الإسلام والمسلمين, وأن الفكر الإسلامي متميز ومتفرد خصائص ذاتية تنفي عنه مشابهة أي حضارة أخرى وأي نظام أخر عرفه الناس قديماً أو يعرفونه حديثاً, وأن أي لقاء بين الإسلام وحضارته وبين عقيدة أو حضارة لا يمكن إلا أن يكون لقاء عابراً تعقبه مفارقة كاملة ويحكمه اختلاف أساسي!!. إن من أبرز تداعيات هذا المنهج هو أنه يؤدي إلى انكماش الحضارة الإسلامية, مما يعني تراجع مكانة المسلمين في مقام صياغة خطاب إسلامي متوازن نقدمه للحضارات الأخرى. نعم علينا الاستماع بعقول مفتوحة وقلوب صافية إلى كل ما يقوله دعاة الجمود على النص, وإلى ما ينبهون إليه من محاذير الاندفاع غير المدروس وراء دعوات التجديد. لكنا في المقابل لابد من وضع كل هذه المحاذير في إطارها الصحيح, المتمثل في أن يظل التجديد تجديداً في فكر المسلمين وتطويراً له, لا خروجاً من ثوابت الإسلام ولا تحريفاً لأحكامه, وانفلاتاً من مبادئه وقيمه. إن من بين سلبيات الجمود على النص هو إرتكاس الحركات الإسلامية الأصولية إلى سلفية رجعية متحجرة, عطلت العقل وحاربت مبدأ الاختلاف والتنوع. والمؤسف حقاً والأكثر خطورة هو أن تحول تلك الحركات الإسلامية – والسلفية منها بوجه خاص – إلى أيديولوجيا مبررة للإرهاب. وبهذا يكون العالم الإسلامي قد مُني بحركة مناقضة لحركة الرواد أو المصلحين الأوائل أمثال السيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم. فالحركات الراهنة حركات مُغيبة الوعي ولا وعي تعرف سوى العنف الجسدي. أما ضرورة التجديد في الخطاب الديني فتتمثل تفعيل منهج الحوار, ولا ضير في تضارب الآراء عند الحوار, طالما أنه يتضمن الحث على تلاقح الأفكار, ويعمل على إزالة الاختلافات والوصول إلى الفكر الصحيح, وفي هذا المقام يقول الإمام على(ع) (اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب). ولكي يتسنى للمتحاورين الوصول إلى أرضية مشتركة عمادها الفكر الصائب, فإنه يجب على المتحاورين – من وجهة نظر الإسلام – أن لا يبتعدوا في حوارهم عن المعايير العقلية والمنطقية, ويتحاوروا بأسلوب علمي, ويستندوا إلى ما تؤمن ضمائرهم بأنه حق, ولا يخرجوا عن إطار البراهين العقلية, ولا يظنوا بأن مجهولاتهم العلمية معلومة, إضافة إلى عدم الخوض في ما ليس لهم به علم ومعرفة كافية. وإذا روعي هذا الجانب من الأدب فهو كفيل بإنهاء جميع الاختلافات الناتجة عن خطأ الفكر, وهذا المعنى تشير إليه حكمة الإمام على(ع): لو سكت الجاهل ما أختلف الناس. خلاصة الأمر في هذا المقام إننا بحاجة إلى خطاب يؤكد على ضرورة التعامل الإيجابي, وتفهم أرائه وأفكاره عبر دراسة سلوكه النفسي والاجتماعي, بعيداً عن الانغلاق الذاتي, الذي لا يحترم السلم الاجتماعي, رغم أن التباين التكويني بين الأمم والتنوع الإنساني يفرض على المجتمع حتمية اجتماعية محددة تعبر بمجملها عن جمالية الحياة, فالتنوع المتناسق سمته الجمالية التي تحكمنا بقانونها, قال تعالى: (وَمِنَ آياته خلقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنَ في ذلك لآيات للعالمين). وعندها يتحتم علينا الانطلاق بلا تردد, نجدد الفكر ونغني الرؤية بكل ما هو
|